فيلم "قصة كيرلا"- تصدير التعصب أم سرد للواقع؟

في مشهد يثير الفضول، تجلس شاليني أونيكريشنان، الشابة الهندية المنتمية إلى الديانة الهندوسية، وجهاً لوجه أمام ثلة من ضباط الأمن الذين يطرحون عليها أسئلة دقيقة حول ملابسات انضمامها إلى تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف اختصاراً بـ "داعش".
ينطلق المحققون في استجوابهم بالتركيز على تحديد التوقيت الذي اتخذت فيه شاليني قرار الانضمام إلى التنظيم، لكن شاليني، بذكاء وفطنة، تقاطعهم لتصحيح مسار السؤال، مؤكدة أن الأهم من معرفة متى انضمت هو فهم الأسباب والدوافع التي قادتها إلى اتخاذ هذه الخطوة المصيرية. وتبدأ الفتاة الهندية، القاطنة في ربوع ولاية كيرلا الهندية، في سرد وقائع قصتها التي تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل المثيرة.
تتجلى في طيات هذه الحكاية صورة قادة تنظيم الدولة وهم يمارسون أساليب الترغيب والتضليل على الشباب، مستغلين اسم الحب للإيقاع بالفتيات الهنديات غير المسلمات، وعزلهن عن محيطهن العائلي، بهدف إدخالهن في الدين الإسلامي ومن ثم تجنيدهن وإقناعهن بالسفر إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وذلك بحسب ما يرويه الفيلم الهندي المثير للجدل "قصة كيرلا"، الذي أخرجه المخرجان الهنديان سوديبتا سين وأمروتلال شاه في عام 2023.
يتلاقى الفيلم بشكل لافت مع الرواية التي يتبناها الخطاب الهندوسي المتعصب في الهند، والذي يدعمه بقوة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، إذ لا يكتفي الفيلم بعرض قصص فردية لبعض الفتيات، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن العدد الإجمالي للفتيات اللاتي تم استدراجهن يبلغ حوالي 32 ألف فتاة في ولاية هندية واحدة.
لم يكن مستغرباً أن يحظى الفيلم بإشادة واسعة من قادة الحزب الحاكم، بل وصل الأمر إلى أن أثنى عليه رئيس الوزراء ناريندرا مودي بنفسه في تجمع جماهيري حاشد. غير أن هذه السردية تثير قلق المسلمين في الهند، الذين يرون فيها تشويهاً لصورتهم ووصمهم بالإرهاب، فضلاً عن كونها تبريراً للإجراءات العنصرية والانتقامية التي تقودها المعارضة، الأمر الذي يهدد بشكل خطير السلم الأهلي والوئام الاجتماعي في شبه القارة الهندية التي تزخر بالتنوع اللغوي والديني والعرقي.
لم يقتصر الجدل الدائر حول الفيلم على قاعات السينما في الهند، بل امتد ليشمل بريطانيا أيضاً، التي تحتضن عدداً كبيراً من أفراد الجالية الهندية، ويقود حكومتها رئيس وزراء من أصول هندية وينتمي إلى الديانة الهندوسية. وهذا يشير بوضوح إلى أننا بصدد ظاهرة تتجاوز كونها مجرد فيلم يثير ضجة، بل هي محاولة لتصدير الخطاب العنصري الهندي إلى خارج حدود الهند، مستغلين في ذلك قوة السينما وتأثيرها الواسع.
لطالما كانت سينما بوليود سفيرة لثقافة التعايش الهندية، وكان صعود الممثل الهندي المسلم الشهير شاه روخ خان، المعروف باسم "شاروخان"، إلى قمة النجومية، مثالاً حياً على قصة نجاح أمكن تحقيقها بفضل البيئة الهندية المتسامحة والمتنوعة.
في أعقاب بدء عرض الفيلم في دور السينما الهندية في مايو/أيار 2023، اندلعت اشتباكات طائفية مؤسفة في ولاية ماهاراشترا غربي البلاد، أسفرت عن وفاة شخص وإصابة ثمانية آخرين. وعلى إثر ذلك، اعتقلت الشرطة أكثر من مئة شخص، بل وصل الأمر إلى أن قامت السلطات بحجب خدمة الإنترنت وفرض حظر التجول في محاولة لاحتواء الوضع المتوتر.
وفي ولاية كيرلا نفسها، اشتعل جدال سياسي وقضائي حاد بشأن الفيلم، ولا تزال نهايته مجهولة حتى الآن. وقد بادرت ولاية البنغال الغربية الهندية إلى منع عرض الفيلم في دور السينما، في محاولة جادة للحيلولة دون حدوث أي توترات طائفية، معتبرة أن قصة الفيلم تحمل تشويهات كبيرة وتفتقر إلى الدقة.
وفي بريطانيا، قام محتجون باقتحام إحدى دور السينما في مدينة برمنغهام التي كانت تعرض الفيلم، مطالبين بوقف عرضه فوراً. وقامت صحيفة "ديلي ميل" (Daily Mail) البريطانية، المعروفة بتوجهاتها اليمينية، ببث مقاطع فيديو تظهر عملية اقتحام المحتجين لدار السينما، بالإضافة إلى مقاطع أخرى تظهر أحد المحتجين وهو يقف في منتصف قاعة العرض أثناء عرض الفيلم، ويصرخ قائلاً إن هذا الفيلم محض أكاذيب وافتراءات. وطالب المحتجون بالتحدث مباشرة مع مدير الدار لتقديم احتجاجهم.
تصدير الإسلاموفوبيا
يؤكد المنتجون بوضوح، سواء في الفيلم نفسه أو في إعلاناته الترويجية، أن الأمر لا يتعلق بمجرد خيال أو قصة من نسج الخيال، بل يزعمون أنه يعكس العديد من القصص الحقيقية التي حدثت بالفعل.
وهذا على عكس العديد من الأفلام الأخرى التي تتناول قضايا حساسة وتتجنب الخوض في الواقع بشكل مباشر، بل تنحو نحو الخيال وتتبرأ من تصوير الواقع لتفادي أي أزمات أو خلافات محتملة. فقد تناولت العديد من الأفلام والمسلسلات العربية والغربية ظاهرة تجنيد تنظيم الدولة للنساء والشباب، وقدمت معالجات مختلفة لهذه القضية، تباينت الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، لكنها في النهاية لم تصل إلى حد اللعب على الوتر الطائفي داخل أي من المجتمعات الغربية أو العربية أو المسلمة، أو تعزيز وجهة نظر عنصرية. ولهذا، فإن هذا الفيلم يمثل حالة فريدة من نوعها في هذا المجال.
دأبت السينما الهندية على مر السنين على إضفاء طابع المبالغة والتهويل على أفلامها، والإفراط في التعبير عن المشاعر، بل وحتى تصوير المستحيلات العقلية في إطار مدرسة سينمائية مميزة أفرزتها هذه الثقافة العريقة.
وعلى الرغم من التوترات العرقية والطائفية والدينية التي تشهدها البلاد بين الحين والآخر، فإن السينما كانت على الدوام جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمجتمع، وكانت تجسد الصورة المثالية التي ينبغي أن يكون عليها هذا المجتمع المتعدد الأعراق واللغات، وكانت بعيدة كل البعد عن هذا الشحن العنصري. يضاف إلى ذلك تراث التعايش السلمي والنضال المشترك وتجربة المهاتما غاندي الملهمة التي تصبغ التاريخ الحديث للبلاد، والتي ألهمت الكثير من الشعوب حول العالم.
لطالما كانت سينما بوليود سفيرة لثقافة التعايش الهندية، وكان صعود الممثل الهندي المسلم الشهير شاه روخ خان، المعروف باسم "شاروخان"، إلى قمة النجومية، مثالاً حياً على قصة نجاح أمكن تحقيقها بفضل البيئة الهندية المتسامحة والمتنوعة. وهذا أحد أسرار القوة الناعمة للهند التي لم يستفد منها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم شيئاً، بل على العكس، يروج لكل ما هو عكس ذلك. وتكمن الخطورة في أن شرر التوترات الطائفية بدأ يتطاير خارج حدود الهند، وهو أمر بالغ الخطورة، خاصة في أوروبا التي تعاني بالفعل من مشاكل عنصرية ولا تحتاج إلى المزيد من الزيت على النار.

إن سؤال المنع والعرض هو أبسط الأسئلة التي يطرحها هذا الفيلم، وذلك لأن المشكلة التي يثيرها تتجاوز كونه مجرد فيلم مسيء أو مثير للجدل، بل امتدت لتشمل دولة أخرى غير دولة الإنتاج، مع الاعتراف بأن الفيلم قد استفاد من الرقابة المخففة التي تتمتع بها الأفلام في دور العرض البريطانية، والتي تختلف عن رقابة محتوى الإنتاج التلفزيوني، لأنه ينظر إلى التلفزيون كوسيط عائلي مفتوح على شرائح عمرية مختلفة ويحتاج إلى تدقيق للمحتوى المعروض عليه، مع الموازنة الدقيقة بين حرية الإبداع وحماية السلم الأهلي ونبذ خطاب الشحن العنصري والطائفي.
والسؤال الجوهري الذي يطرحه الفيلم هو: إلى أي مدى يمكن لمسألة نزع الأنسنة أن تمضي قدماً عبر الفنون؟ ونزع الأنسنة هنا تعبير أكثر دقة من مصطلح "الشيطنة"، لأن نزع الأنسنة ينطوي على التعامل مع المخالفين، حتى المخطئين منهم، ليس بوصفهم بشراً وإنما كأشياء يمكن الهجوم عليها دون أي اعتبارات إنسانية. لأن منع الفيلم، كما فعلت ولاية البنغال الغربية الهندية، يمكن أن يحتوي المشكلة جغرافياً، لكنه لا يعالجها اجتماعياً وسياسياً.